مع انتشار الذكاء الاصطناعي وبرامج الإجابة على جميع أسئلة مستخدمي مواقع التواصل الاجتماعي الانترنت مثل شات جي بي تي وجروك وجيميني، يلجأ البعض لسؤال الذكاء الاصطناعي عن المسائل الدينية.
ورجا على سؤال هل يجوز الرجوع لتطبيقات الذكاء الصناعي لسؤالها في بعض المسائل الشرعية وأخذ الحكم منها والاعتماد على ما فيها من أحكام؟
هل يجوز استفتاء الذكاء الاصطناعي
وأجاب موقع الإسلام سؤال وجواب والمشرف عليه الشيخ محمد صالح المنجد بقوله إن الذكاء الاصطناعي أداة مباحة في الأصل، لكن لا يجوز استفتاؤه أو الاعتماد على أجوبته في الأمور الشرعية؛ لأنه يفتقر إلى أهلية الفتوى من فقهٍ في الدين، وفهمٍ للواقع، وغيرها من الشروط.
اقرا ايضا:
ما المقصود بـ هجر القرآن وما حكمه؟
وأجوبته تُولّد آليًّا من بيانات قد تكون مجهولة أو مغلوطة، وقد تحتوي على انحيازات ولا تراعي الفروق المؤثرة بين الناس، لكن يجوز للباحث الاستفادة منه في جمع المادة أو فهم الواقع، بشرط التحقق من المصادر.
أما العامي، فلا يحل له العمل بفتوى الذكاء الاصطناعي، وإنما يسأل أهل العلم الموثوقين.
وجاء في نص الجواب، بشأن استفتاء الذكاء الاصطناعي:
الجواب
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
أولا:
الاستفتاءُ طلبُ الفتوى، والفتوى " اسمٌ مِن: أفتى العالمُ؛ إذا بيّن الحكمَ. واستفتيتُه: سألتُه أنْ يفتيَ " كما في "المصباح المنير" (2/462) .
اقرا ايضا:
هل يجوز قراءة القرآن من الهاتف بغير وضوء؟ (فيديو)
وقال الراغب الأصفهاني في "مفردات القرآن" (ص625) : "الفتيا والفتوى هي الجوابُ عما يُشكِل مِن الأحكام" انتهى.
وقال المرداوي في "الإنصاف" (28/314): "والمفتي: مَن يبين الحكمَ الشرعي، ويخبر به، مِن غير إلزام. والحاكمُ -يعني القاضي-: مَن يبينه، ويُلزم به " انتهى.
ثانيا:
الذّكاء الاصطناعي -ولعلّ الأصحَّ لغةً أن يقال: الصناعي- عرّفته "الهيئة السعودية للبيانات والذكاء الاصطناعي SDAIA" بأنّه : "أنظمةٌ تَستخدم تقنياتٍ قادرةً على جمعِ البيانات واستخدامِها للتنبؤ أو التوصية أو اتخاذ القرار بمستويات متفاوتة مِن التحكم الذاتي، واختيار أفضل إجراء لتحقيق أهدافٍ محدّدة" انتهى.
والذكاءُ الاصطناعي (أو الصناعي) مِن الأدوات الحديثة التي تفيد في كثيرٍ مِن المجالات العلمية والإنسانية والشرعية، فهو أداةٌ كسائر الأدوات التي يجوز استعمالُها فيما لا يخالف الشريعةَ الإسلامية؛ لأنّ الأصلَ في الأشياء الإباحة، والشريعةُ إنما جاءت لتحقيق المصالح وتكثيرها ، ودرء المفاسد وتقليلِها، فهي لا تمنع مما يحقق مصالحَ العباد في الدين والدنيا، بل تمنع ما يضرهم في العاجل والآجل.
ومِن ثَمّ: يُحظر استعمالُ الذكاء الاصطناعي فيما يتضمّن محرمًا أو إضرارًا بالغير أو نشرًا للمفاسد، أو ما يحتوي غشًّا وتغريرًا بالناس، كما لا يجوز تزويدُه بالمعلومات المغلوطة وتدريبُه عليها لتضليل المستخدمين..
اقرا ايضا:
حكم تخصيص يوم الجمعة لقراءة سورة الكهف.. وفضل قراءتها في سائر الأيام (فيديو)
وأيضًا يحذّر كثيرٌ مِن الباحثين مِن الركون إلى الذكاء الاصطناعي، وإحلاله محلَّ البشر في كثير مِن الجوانب والعلاقات الاجتماعية، مما قد يؤدي إلى مفاسد جسيمة على المدى الطويل .
والإفتاءُ بالذكاء الاصطناعي يكون بإدخال كمية مِن المعلومات الشرعية، والتدريب عليها، عبر تقنياتٍ حاسوبيةٍ، وتنضم هذه المعلومات إلى قدر ضخم مِن المعلومات والبيانات المتنوعة، في مختلف المجالات والحقول المعرفية متباينة المصادر والدقة، ثم تجري عملية توليد الجواب وَفق ترتيبات وبرمجيات معقدة، على الأسئلة المتعلقة بتلك المعلومات، والتي تُطرح عبر تطبيقات معينة.
ثالثا:
لا يخفى أنّ للإفتاء مقامًا عظيمًا في الشرع، هو مقامُ التوقيعِ عن الله تعالى، وبيانِ أحكامِه لعباده، وتنزيلِها على وقائعهم، ولا يقوم بهذا العمل العظيم إلا مَن تحقّق بجملةٍ مِن الصفات، وجمعَ عددًا مِن الشروط، مِن شأنها أنْ تمكّنَه مِن خوضِ هذا العمل الكبير، وتتيحَ له أن يتبوأ هذا المنصب الخطير، ومنها: الإسلام، والبلوغ والعقل، والعدالة، والعلم بالشريعة، وملَكة الفهم والاستنباط، والفقه في الواقع..
قال الإمام الشافعي رحمه الله فيما رواه الخطيب البغدادي بإسناده في "الفقيه والمتفقه" (2/331): " لا يحلُّ لأحدٍ يفتي في دين الله، إلا رجلًا عارفًا بكتاب الله: بناسخه ومنسوخه ، وبمُحكَمِه ومتشابِهِه، وتأويله وتنزيله ، ومكيِّه ومدنيِّه ، وما أُريد به ، وفيمَ أُنزل ، ثم يكون بعد ذلك بصيرًا بحديث رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ، وبالناسخ والمنسوخ ، ويَعرف مِن الحديث مثلَ ما عرف مِن القرآن، ويكون بصيرًا باللغة، بصيرًا بالشِّعر، وما يحتاج إليه للعلم والقرآن، ويَستعمل مع هذا الإنصافَ، وقلةَ الكلام ، ويكون بعد هذا مشرفًا على اختلاف أهل الأمصار، ويكون له قريحةٌ بعد هذا.
فإذا كان هذا هكذا؛ فله أن يتكلمَ ويفتيَ في الحلال والحرام.
وإذا لم يكن هكذا، فله [كذا، ولعله: فليس له] أنْ يتكلمَ في العلم ولا يفتي " انتهى.
وقال ابن القيم في "أعلام الموقعين عن رب العالمين" (1/189) : " ولا يتمكن المفتي ولا الحاكم مِن الفتوى والحكمِ بالحقِّ إلا بنوعين مِن الفهم:
أحدهما: فهم الواقع والفقه فيه، واستنباط علم حقيقة ما وقع بالقرائن والأمارات والعلامات، حتى يحيط به علمًا.
والنوع الثاني: فهم الواجب في الواقع، وهو فهمُ حكمِ الله الذي حكم به في كتابه أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم في هذا الواقع، ثم يطبّق أحدهما على الآخر؛ فمَن بذل جهدَه واستفرغ وُسعَه في ذلك لم يعدم أجرين أو أجرًا؛ فالعالم مَن يتوصل بمعرفة الواقع والتفقه فيه إلى معرفة حكم الله ورسوله ...
ومَن سلك غيرَ هذا أضاع على الناس حقوقَهم، ونسب ذلك إلى الشريعة التي بعث الله بها رسوله صلى الله عليه وسلم".
ولا يخفى أنّ هذه الشروط يتعذّر تحقّقها في الذكاء الاصطناعي مهما تطوّر، فليس هناك مسوغ شرعي مقبول للركون إليه واستفتائه، وإنما والرجوعُ إلى أهل العلم والاختصاص والديانة كما قال سبحانه: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43]، وإذا كان الواجبُ على مَن عرضت له نازلةٌ ، ونزلت به واقعةٌ تستدعي حُكمًا شرعيًّا أنْ يستفتيَ أهلَ الذِّكر والعلم، فإنّ ذمّتَه لا تبرأ بسؤال مَن لا يتحقق أنه أهلٌ لِأنْ يُسأل ويُستفتَى، بأن يكون مِن أهل العلم الذين توفرت فيهم شروط المفتي.
رابعاً:
الفرقُ بين الذكاء الاصطناعي والرجوع إلى مواقع الفتوى الإلكترونية : أنّ الذي يفتي في تلك المواقع أناسٌ حقيقيون، سواء كان المفتي عالـِمًا معيَّنًا، أو مجموعةً مِن الباحثين، ومهمةُ الموقع إنّما هي نشر تلك الفتاوى منسوبةً إلى الجهة التي أصدرتها.
فإذا كانت الجهة موثوقةً ، أو العالـِمُ الذي باشر الجواب معروفًا بالعلم والعدالة: أمكن الاعتمادُ على فتواه، إذا انطبقت على محلّ السؤال، وحصل التحققُ مِن عدم وجود الفرق المؤثِّر بينهما..
وأمّا الذكاء الاصطناعي فهو يحاول أن يحاكيَ الإنسان، وينشئ جوابًا، ويبني فتوى مِن عنده بناء على ما يمكنه الوصول إليه مِن معلوماتٍ وبيانات محمَّلة في الفضاء الإلكتروني، وفق برمجيات وترتيبات تقنية تعمل بطريقة إحصائية رياضية، يؤثر فيها تزاحم ومكاثرة المعلومات، ولا تسلك الطرق المنطقية، والخطوات الاستدلالية المتبعة عند أهل العلم .
خامسًا:
هذا الإشكال والقصور الذي تشتمل عليه أجوبة الذكاء الاصطناعي يعود إلى أسباب متعدّدة ، مِن أهمِّها :
السبب الأول:
جهالة المصدر، التي تقتضي عدمَ الثقة بالمحتوى؛ لأنّ الذكاء الاصطناعي إنما يجيب بحسب المعلومات التي يُغذَّى بها، فحينما يُسأل عن شيء، فإنه يبحث عن المعلومات المتعلقة بالجواب في سائر المواقع، والمواد المكتوبة، والمقاطع الصوتية والمرئية المتوفرة، على اختلاف اللغات وتعدُّد الجهات، وربما رجع إلى مصادر غير إسلامية، أو منحرفة أو مشوهة .
اقرا ايضا:
إمام الحرم المكي: احذروا التشاؤم وسبّ الأوقات.. واعتبروا بمرور الأيام فالسعيد من اعتبر
السبب الثاني:
عدم مراعاة ما يؤثّر في الفتوى وتغير الحكم مِن تباين العادات والأعراف، وتحقق القيود والضوابط والاشتراطات والاحترازات ، واختلاف أحوال المستفتين ، وعروض مقتضيات الاستثناء، ومراعاة المصالح والمفاسد، واعتبار المآلات، ونتائج التصرفات؛ مما لا يقوم به إلا المفتي الخبير الذي يباشر النظر في تلك النازلة ..
ومِن المعلوم أن الأحكام الشرعية قسمان: منها ما يقبل التغير ؛ لتغير مقتضِيه وما يؤثر فيه، ومنها ما هو ثابت لا يقبل التغير.
قال ابن القيم في "إغاثة اللهفان" (1/330) : "الأحكام نوعان: نوع لا يتغير عن حالة واحدة هو عليها، لا بحسب الأزمنة ولا الأمكنة، ولا اجتهاد الأئمة، كوجوب الواجبات، وتحريم المحرمات، والحدود المقدرة بالشرع على الجرائم ونحو ذلك، فهذا لا يتطرق إليه تغييرٌ ولا اجتهادٌ يخالف ما وُضع عليه.
والنوع الثاني: ما يتغير بحسب اقتضاء المصلحة له زمانًا ومكانًا وحالاً، كمقادير التعزيرات وأجناسها وصفاتها ؛ فإنّ الشارعَ ينوّع فيها بحسب المصلحة.." انتهى .
والأحكامُ التي تتغير بتغير الزمان لها وصفان، إذا لم يتحقّقا، أو فات أحدُهما: لم تكن مِن الأحكام القابلة للتغير، بل هي مِن الأحكام الثابتة، وهذان الوصفان هما:
الوصف الأول: أن يكون الحُكمُ مِن المسائل الاجتهادية، دون المسائل التي وردت فيها نصوصٌ قطعية ثبوتًا ودلالة.
قال د. محمد الزحيلي في كتابه "القواعد الفقهية وتطبيقاتها في المذاهب الأربعة" (1/355): "اتفقت كلمةُ المذاهب على أنّ الأحكام التي تتبدل بتبدل الزمان وأخلاق الناس، هي الأحكام الاجتهادية التي بُنيت على القياس ودواعي المصلحة، فإذا أصبحت لا تتلاءم وأوضاع الزمان ومصلحة الناس وجب تغييرها".
والوصف الثاني: أن يكون مِن الأحكام المبنية على العُرف والعادة أو المصلحة والقياس.
قال الشيخ أحمد الزرقا في "شرح القواعد الفقهية" (ص227): "لا يُنكَر تغير الأحكام بتغير الزمان. أي: بتغيّر عُرفِ أهلِها وعادتِهم، فإذا كان عرفُهم وعادتُهم يستدعيان حُكمًا، ثمّ تَغَيّرا إلى عُرفٍ وعادةٍ أخرى، فإنّ الحكم يتغير إلى ما يوافق ما انتقل إليه عرفُهم وعادتهم".
السبب الثالث:
تقديم المعلومات المغلوطة والبيانات المخترعة التي لا أصل لها، وعرضها بصورة المعلومات الصحيحة الموثوقة ، وقد تتضمن أسماءً وأرقامًا وإحصائيات، ظاهرُها الدقّة والموضوعية ، وهي في حقيقتها مختلقة لا وجودَ لها في شيء مِن المواقع ومصادر المعلومات ، وهو ما اصطُلح على تسميته بظاهرة (هلوسة الذكاء الاصطناعي!).
كما أنه يمكن تغيير الرأي الذي يعطيه الذكاء الاصطناعي، بتغيير بعض الكلمات أو العبارات غير المؤثرة في الحكم .
السبب الرابع :
قد يتم تدريب الذكاء الاصطناعي مِن قبل القائمين عليه، على بعض القناعات والمنطلقات التي تستوجب انحيازًا مبدئيًا لأفكار وتصورات غير شرعية في كثير من مسائل الفكر والأسرة والعقيدة وغيرها، مما يؤثر في الأجوبة المتعلقة بتلك المجالات.
وما دام الذكاء الاصطناعي متصفًا بهذه الصفات، متحقّقًا بهذه العيوب فلا يمكن الاعتماد عليه في الاستفتاء، وطلب الحكم الشرعي للعمل به والبناء عليه ؛ لافتقاره للشروط المطلوبة في الفتوى المقبولة شرعًا ..
والواجب العمل على تطوير الذكاء الصناعي أو بعض تطبيقاته لتجاوز هذه الإشكالات، والتخلص من أسباب القصور مع مراعاة الشروط والضوابط المعتبرة.
سادسًا:
يستفيد مِن الذكاء الاصطناعي في الفتاوى شخصان:
الأول: المفتي أو الباحث الشرعي الذي يريد أنْ يجيبَ على السؤال، ويبين الحكمَ الشرعي في الواقعة، فإذا كان مِن أهل الاختصاص والمعرفة، فله أنْ يستفيدَ مِن الذكاء الاصطناعي في صناعة الفتوى؛ فيمكنه أن يقف على تصور مبدئي، ثم بعد ذلك يبدأ هو في إنشاء الجواب من عند نفسه.
والفائدة الأهم التي ينتفع بها الباحث في الفتوى: هي مساعدته في الوصول للمصادر والمراجع، ثم يرجع هو بنفسه إلى هذه المصادر ليستقي منها المادة، ويتحقق من دقة النتيجة التي يعرضها الذكاء؛ فكثيرا ما خيب الذكاء حاجة الطالبين في المسائل العلمية، وإحالتهم إلى مصادر ليست لها علاقة بالمعلومة المعينة المطلوبة!!
وبإمكان الباحث الشرعي أن يستفيد أيضا من الذكاء الصناعي في تلخيص الكتب والأبحاث والمقاطع المتعلقة بالموضوع، وفهم واقع كثير مِن القضايا والنوازل المعاصرة فيه، ولا يخفى ما في ذلك مِن توفيرٍ للوقت والجهد، وتسهيلٍ للعمل ، فاستعمالُه حينئذ موافقٌ لمقاصد الشريعة، وللوسائلِ أحكامُ المقاصد، ولكنْ -كما سبق- مِن غير ركونٍ إليه، واعتمادٍ على ما يوردُه؛ لافتقاره إلى الدِّقة في كل ذلك، وعرضه لكثير من النتائج بناء على مجرد المشابهات اللفظية، وإمكان التلاعب بالمعلومات التي يستقي منها ، وعدم مراعاة السياق وأبعاده ، وعدم القدرة على مراعاة تغير الزمان والمكان، والتعامل مع الحالات الفردية، ومقتضيات الضرورة والحاجة، وموجبات الاستثناء، ومراعاة الأعراف والقيم والأخلاق؛ فهو "آلة" تقدم المخرجات، بحسب ما أتيح لها من "المدخلات"!!
وحينئذ؛ فمتى استعان الباحث الشرعي بالذكاء الصناعي في مرحلة جمع المادة، وتتبع المعطيات المعينة على فهم الواقع، وتصور النازلة، وتقديم الفتوى الشرعية الملائمة لها؛ فلا بد له أن يتوثّق مِن النقول، ويرجع إلى المصادر بنفسه، ويتحقّق مِن الضوابط والقيود ، ويتأكد مِن مطابقة الجواب للنازلة المسؤول عنها ..
الثاني: المستفتي، وهو من يطلب الجواب لنفسِه ، ولا يخلو إمّا أن يسأل الذكاءَ الاصطناعي لا ليعمل بالجواب، وإنما لأخذِ فكرةٍ عن الموضوع، أو فهم جوانب وأبعاد المسألة التي وقعت له، أو للثقافة العامة في ذلك الأمر مِن غير اعتمادٍ على ذلك الجواب: فهذا غاية ما يمكن من الرخصة في النظر في أجوبة الذكاء الصناعي المتعلقة بأمور الشريعة. مع وجوب أخذ الحيطة والحذر مِن عدم الدِّقّة، وجهالة المصادر ، فهو شبيه بمطالعة المواقع المختلفة ؛ لأنه يستقي منها مع قيام احتمال التحوير والتشويه الذي يستدعي مزيدًا مِن الاحتراز والتبيُّن ، ومع التخوّف أن يؤدّي تكررُ سؤاله، وطولُ التعامل معه إلى الركون إليه والثقة به والتعويل عليه.
على أننا أيضا: لا نرى الاهتمام بأجوبته في هذا الجانب، ولو لم تكن للعمل الحقيقي، في خاصة المرء في نفسه، أو غيره؛ فـ"العلم دين، فانظروا عمن تأخذون دينكم" كما قال السلف فالواجب على المسلم متى احتاج أن يعرف شيئا من أمر دينه، ولو أن يتثقف أو يرفع الجهل عن نفسه؛ أن يكون ذلك من مصدر مأمون موثوق به، من كتب أهل العلم، أو كلامهم المعروف.
ويمكنه الاستفادة من الذكاء الاصطناعي في ذلك بأن يطلب منه مراجع وروابط الفتاوى التي استعملها للوصول إلى الجواب، فيأخذها المستفتي ويرجع إليها بنفسه فإن كانت مراجع معتمدة ووجد جوابه وكان مطابقا لحاله أخذ بالفتوى من المرجع الأصلي، ويكون بذلك استخدم الذكاء الصناعي (كمحرك بحث ذكي) للوصول إلى الإجابة من المصادر الموثوقة.
وأمّا سؤال المستفتي الذكاءَ الاصطناعي للاعتماد على جوابه الذي يولده بنفسه، والعمل بما يفتي به: فلا يحل له ذلك، بحسب المعطيات المتاحة من واقع الذكاء الصناعي؛ لما سبق مِن عدم تحقق الشروط الشرعية المعتبرة في الفتوى التي يمكن الأخذ بها، وعدم مراعاة الأسس التي تُبنى عليها.
اقرا ايضا:
إمام المسجد النبوي: احذروا من الاستهانة بجناب الربوبية أو الرسالة فمن لم يعظمهما هلك
سابعًا:
للباحثين وأهل العلم المعاصرين اتجاهان في استفتاء الذكاء الاصطناعي والاعتماد عليه في معرفة الحكم الشرعي:
الاتجاه الأول : هو البقاء على الأصل مِن المنع من استفتائه، وعدم الوثوق بأجوبته .
الاتجاه الثاني : هو التفريق بين نوعين مِن الفتاوى التي تُطلب من الذكاء الاصطناعي:
النوع الأول: ما يستوي فيه المكلَّفون، ولا يتعلق بأحوال الشخص ، ولا يخضع للنظر في المصالح والمفاسد والاستثناءات والمآلات ، بل يكون الحكمُ فيه ثابتًا يستوي فيه الناس كنواقض الوضوء، وواجبات الصلاة ، والأموال الزكوية ومَن تُدفع إليه الزكاة، ومفسدات الصوم ومحظورات الإحرام في الحج والعمرة ، فهذا النوع يمكن عندهم الاستفادة مِن أجوبة الذكاء الاصطناعي فيه بشروط:
1-أن تكون الجهة الداعمة لتطبيق الذكاء الاصطناعي موثوقة في إصدار الفتاوى.
2-أن يكون التطبيق معتمدًا على فتاوى تلك الجهة ولا يشاركها مصادر مجهولة أو غير موثوقة.
3-أن يكون عند المستفيد القدرة على فهم العبارات ودلالات الألفاظ المستخدمة على وجهها الصحيح.
4-التأكد مِن انطباق الجواب على الصورة المسؤول عنها دون أي فرق مؤثر.
وإذا اختل شرطٌ مِن هذه الشروط، وجب الرجوع إلى الأصل مِن سؤال أهل العلم واستفتائهم فيما ينزل بالمكلف.
النوع الثاني: الفتاوى التي تُبنى على العادات والأعراف، وتختلف باختلاف الظروف والأشخاص، وتفتقر إلى النظر في القرائن والملابسات، أو دواعي الضرورة والحاجة والاستثناءات، ونحو ذلك، فهذا لا يجوز الرجوع فيه إلى الذكاء الاصطناعي، ولا الاعتماد على جوابه، ولا العمل بما فيه، بل لا بدّ من الرجوع إلى أهل العلم والأمانة ليفتوه بما يناسب حاله، وينطبق على نازلته..
والذي يظهر لنا: أن الاتجاه الأول في المنع مِن الاعتماد على أجوبة الذكاء الاصطناعي، في وضعه الحالي هو الأقوى والأوجه؛ لعدم أهليته، ووجود قصور وخلل في أجوبته.
والواجب على المسلم أن يحتاط لدينه ، ولا يتساهل بأخذ الأحكام إلا من مصادرها المعتبرة ، ويطلب العلم مِن أهله المعتبرين..
والله أعلم.